2017-03-23
دعاء عمار
غريب أمر الشهداء، نعرفهم فجأة بعد عمر قضوه في التخفي، "عش نيصا وقاتل كالبرغوث" هكذا كان معظمهم يعيش سواء كتب ذلك ك "باسل" أو لم يكن ممن احترفوا الكتابة من قبل، المهم أنهم يشبهون بعضهم كثيرا، على الأقل في تلك الابتسامة التي تقربهم إلينا كلما بحثنا عن صورهم وحياتهم كي نتعرف عليهم أكثر بعد استشهادهم.
غير أن أكثر الصور رسوخا في الذهن ابتسامتها هي، أم الشهيد أيا كانت، عندما تبدوا كالقمر المضيء بين كل تلك الباكيات من النساء، وحدها تعرف صدق ما أراد، ومدى رضاه عن نفسه وعما فعل، لربما تبدأ بالبكاء لاحقا، شوقا وحنينا لا ينقطع مهما تقادم الزمن ومرت الأيام.
يمر يوم المرأة ثم يأتي يوم الأم، فيصبح مارس أكثر الشهور عطاء لأجلها وكأنه اقتبس من أفعالها وحاول مجاراتها فيما تقدم كل يوم على مدار أعوام منذ عرفت وجهتها وأدركت حسن مقصدها وأنها مهما تعبت وتألمت، قدمت التضحيات وبذلت من المال والنفس والولد فإنما هي الرابحة.. وجوابها الأكيد دوما "ربح البيع" إن كان الله اشترى، وقد فعل.
أما تلك الصورة الأخيرة.. باسم بقامته الطويلة يمسك بكفيه وجه أمه، ويقبلها على أحد خديها، ربما كان ذلك بعد الإفراج عنه مرة من سجون ذوي القربى، ذكرتني تلك الصورة بصغيري عندما يعود من المدرسة فيتعلق بي ويمسكني ذات المسكة ويقبلني .. أتجاوز عنه مرة وأنهره مرة لأنه لم يغسل يديه عندما دخل المنزل.. تراها نهرته، هل قالت له ما زالت رائحة البارود تعبق في يدك، أم أن حبر الكتب التي طالما أمسكتها صارت قرينا لرائحتك، هل قالت له مرة "اغسل يديك".
لا أعرف، لكن ما أعرفه أني لن أعود أطلب منه ذلك عندما يحيطني بكفيه، أو حتى عندما يكبر قليلا فتحيطني ذراعيه، سواء امتلأ بالغبار، أو كان مكسوا بالطين، تماما كما توقفت عن نهره عندما كان يخربش على جدران المنزل في صغره، ببساطة لأني رأيت الكثير من الجدران المهدمة، هل كانت أم أولئك الصغار تنهرهم! أم تراها بعد فقدهم تمنت عودتهم ولو ملئوا ألف جدار بكل ما وصل إليهم من ألوان وأقلام.
في نهاية يوم طويل، كانوا يضحكون بصخب.. سألني والدهم عن سبب ضحكهم فأجبته يبدو أنهم يقومون بمصيبة على الجدران، وما أدراك؟ سألني.. فقلت، أشم رائحة الحبر وطلاء الأظافر.. كيف ستعاقبينهم؟ فأجبته، بعد أعوام، سأحضر دلو طلاء، وفرشاة كبيرة، وأشترك معهم في الضحك من جديد، ونحن نصلح ما أفسدوه الآن!
هل تخليت هنا عن حذر الأمهات، وهل ركنت كل المظاهر عندما جاءتني تلك الضيفة فرأت غرفتهم وقد امتلأت بالكتابة والرسوم على الجدار، حقيقة لم يعد كل ذلك يهم، المهم هو أن نمتلئ معا بالذكريات .. بالصخب الضاحك، والكثير من الأمور المشتركة، الكثير من الوجوه المبتسمة.. نخبئها ونلملمها في وسادة لأيام لا نعرف فيها كيف سنفترق، ولا متى سنلتقي، فنضع عليها رؤوسنا.. ثم نبكي طويلا.. إلى حين.
اقرأ أيضا
زوايا الرأي
الأكثر قراءة
الأقسام
روابط الموقع
مواقع صديقة
اشتراك
تواصل
جميع الحقوق محفوظة @ وزارة الإعلام الفلسطينية 2014
متابعة وتطوير وحدة تكنولوجيا المعلومات