2015-01-12
8371
اعداد/ إسلام بهار
لا تُقاس تجربة بشرية بمعزل عن ظروفها، وبعيداً عن سياق الزمان والمكان، الخروج عن هذه القاعدة في تقييمها هو حكم جائر، بل إلغاء لحقوق المكتشف أو المخترع أو المبدع، وبالتالي لمبدأ التطور الإنساني، فلا يمكن الحكم على تجارب الروّاد بعد اكتمال نضجها بما بناه الآخرون عليها، أو أضافوه إليها، فحق لهم شرف البداية مهما شاب إنجازهم من عدم الاكتمال.
ومن هذا المنطلق يصعب الحكم على شعر المقاومة داخل الأرض المحتلة عام ثمانية و أربعين قبل هزيمة حزيران، بمقياس النقد الأدبي والسياسي الراهن، أو الحكم على علاقة الشعراء بمحيطهم العام والخاص آنذاك بمقياس الظروف الآنيّة، وما فرضه انكشافهم العربي من النضوج النفسي والاجتماعي والمعرفي، وتطور المتغيرات السياسية وانعكاسها على الواقع العربي عامة والفلسطيني خاصة.
هذه المتغيرات التي فرضت على بعض شعراء المقاومة محاولة التنصل من البدايات، وما حملته قصائدهم من انفعال ومباشرة، وعدم نضوج في الأسلوب والمعرفة، فتنصّل محمود درويش من بداياته رغم توهجها، حتى صاح يوماً بأحد الطلاب المعجبين به في واشنطن بعد أن طلب منه إلقاء قصيدة “سجِّل أنا عربي”: “سجل أنتَ.. فقد سجلتُ أنا”، متناسياً أنّ هذه القصيدة تحديداً كانت جواز مروره الأول إلى القلوب والنفوس العربية من المحيط إلى الخليج، قبل أن تحتضنه منظمة التحرير بجواز دبلوماسي، وتفتح له باب الانكشاف على العالم، شعراً قادراً عذباً حاملاً لقضية فلسطين، ثم منفتحاً على الإنسانية... لكنّ درويش ظلّ يحاول التنصل مما اعتقد أنه “سذاجة البدايات ومباشرة طرحها” مزهواً بما وصل إليه من بناء ملحمي للقصيدة، ما كان له أن يشيده دون تلك البدايات.
بعد هزيمة حزيران سقط جدار العزل عن الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة، فبرز من بين الأدباء شعراء ثلاثة أسهموا في رفع الروح العربية المكلومة بهزيمتها.. قدّمهم كتاب غسان كنفاني، الأديب الفلسطيني الثائر ثم الشهيد “ أدب المقاومة”.
قصائد الشعراء هزت وجدان العرب وأثارت حماستهم، وغرست أسماء أصحابها في قلوبهم.. “سجل أنا عربي” محمود درويش، “يا عدو الشمس ”سميح القاسم، و ”هنا باقون” لتوفيق زيّاد.
عاش الشعراء كما غيرهم ظروفاً بالغة القسوة والشراسة كما وصفها غسان كنفاني، كانوا يقاومون بالكلمة تحت الاحتلال لا من المقاهي في دول مستقلة، و أنها كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة ليطلوا على محيطهم العربي والعالم، ربما دون تقدير لانعكاس هذا عليهم.. عاصفة تركت جرحاً غائراً في نفس محمود درويش، ثم عاصفة أخرى وجرح آخر بعد خروجه من الأرض المحتلة إلى مصر، فقد تخيّل أنّ الأوساط الثقافية العربية ستتلقفه بالورود حالما يخرج، فجرّحته مزايدات تطاولت على انتمائه، وحاولت النيل من قامته الشعرية المتفردة.
أما سميح القاسم؛ الصوت والعنفوان الآخر، فبقي مغروساً في الرامة، القرية الدرزية المطلة على طبريا والمتوسط في الشمال الفلسطيني الأخّاذ.. ومثله توفيق زيّاد الرابض في الساحل الفلسطيني الآسر.
وربما كان ارتباط سميح بالأرض، التي بقيت لعائلته رغم الاحتلال، سبباً رئيسياً لبقائه في الداخل، رغم أنه مولود في الزرقاء، حين كان والده يعمل في الجيش العربي الأردني، ثم ب سبب ما تعرّض له محمود درويش وقسوة التجربة.. أما محمود درويش فعاش لاجئاً داخل وطنه، ُشرّد إلى لبنان وعاد متسللاً ليجد أنّ قريته قد محيت بالجرافات الإسرائيلية، فعاش لاجئاً في وطنه.
وخروج محمود درويش من الأرض المحتلة أتاح له تجارب لم تتحقق لصنوه سميح القاسم، فكثير من الدول العربية وضعت قيوداً على استقبال القاسم قبل معاهدة أوسلو لأنه كان لا يحمل سوى جواز سفر إسرائيلي.
قابلتُ محمود درويش ثم سميح القاسم في لقاءَين تلفزيونيين أثناء عملي في الإعلام، درويش بعد خروجه من الأرض المحتلة بسنوات.. لقاء لمدة ساعة ونصف، ومثله سميح القاسم أواخر التسعينيات من القرن العشرين.
لا يتمتع القاسم بكاريزما درويش على المستوى الشخصي، وهو أمر لا يد لأيّ منهما فيه، رغم نزق وتوتر درويش.. كان يزور الدوحة وفي جامعة قطر حدثت مشادة بينه وبين موظفة زوجها رئيس تحرير “الراية” آنذاك، فهاجمه في اليوم الثاني بشكلٍ
قاسٍ.. ثم التقيتُه بعد سنوات طويلة في معرض فرانكفورت للكتاب وذكّرته باللقاء، فاستغرب وقال لم أجرِ سوى لقاءَين في حياتي، فتركته ولم أقترب منه بعدها.. واستكثرتُ أن أُذكِّره بقاعدة في علم النفس تؤكد أنّ المواقف الصعبة والمؤلمة يحاول العقل الباطن محوها من الذاكرة أو تناسيها، ولم أقل له أنه كاد يبكي ودمعت عيناه حين أسلته عن حادثة صوفيا وما تعرّ ض له، و أنّ طالبة قطرية قدمت رسالة الماجستير حول درويش معتمدة ب شكل أساسي على ما جاء في لقائنا.
أما سميح القاسم، فكان شديد التسامح حين قلت: “لكن شعر محمود أكثر رقة وانفتاحاً منك..”، فوافق مبتسماً، وقال: “أنا جبليّ مغروس في أرض الصوّان، وألفاظي قاسية أحياناً مثل صخور بلادي”.
ومهما كانت المتغيرات في المشهد السياسي العربي، ورغم التحولات في الوضع الفلسطيني، تظلّ قامات شعراء المقاومة هي الأطول في مجمل الأدب الفلسطيني، فقد نهضت كالعنقاء من رماد الهزيمة وتسامقت بالروح العربية من كبوتها.
خيمة
الكاتبة/دولت محمد المصري
قطعة ثلج صغيرة في راحة يدي أحاول أن أذيب بردها وأردّ الروح إلى مكوناتها , لكنها تأبى الذوبان وتظلّ تخز جلدي مؤرّقة قلبي ..ازداد رهبة عند سماع صفير الريح الذي يتلهى بقماش الخيمة ويعربد كمالك للمكان يرفض سكانه الجدد, ألتف بكل ما يمكنني من الأغطية .. وأكوّر طفلي في حضني موقدة له من أنفاسي نارا بلا حطب .. أتهاوى أمام فشلي في بث الدفء إلى خلاياه المنسوجة من لحمي . أغيب في دمدمة الشتاء وجنوده المبثوثين بقسوة.. يحملونني إلى أصوات القصف ورجم الصواريخ .. والطرقات المليئة بالجنائز.., كلّ شيء حاضر ..يذكرني بأقدامي تطرق الأرض بوجل تحفر أخاديد الخوف لأصبح أحفورة حين الهرب والهرب.. عواء كلاب مريع يطاردني.. مسافات بعيدة لا تخلو من القناصة ..ورعب الاعتقال ..قاموس الحياة المقيت بمفردات مخيفة والدنيا في خصام عنيد معنا . برد ..نوبة شرسة من الحمى تحوّلني إلى بائعة كبريت بائسة ترى من خلال عظامها المتقدة بيت صغير ..وطفل جميل يلهو.. يخربش على وجهي أمنياته.. ويصنع مني لعبة ..ومهرج , أسمح أن يشتت شعري وأصير له دابة, تومض تلك النهارات التي جمعت بين قلبين أحدهما ضل طريقه في مخيمات اللجوء والآخر فَقِد في معتقلات وسجون ..نتهاتف من بعيد وسهام قهري تخترق المدى .. هل ستعود ..أم تتركنا لموت بطيء نتسابق فيه أنا وابنك ؟. أصرخ من غير صوت يسعفني ..فمي أغلق بوابته على صرخاتي فلا تنفذ إلا آهة مرهقة من الظلم .أنتظر طلوع الصباح على جثتين هامدين وأكثر. يزداد الريح شراهة .. يريد ابتلاعنا في موجة ثلج متدفقة .. برودة تلفّ طفلي ..وحمى تكفنني.. قالبان من الجليد يحاول أن يذيب أحدهما الآخر, حرقة تنبق من ألمي ..البيت وطن أغط ّفي هذيان قاتل.
في الصباح الباكر ..كانت إحداهن ترقبني.. تمسد شعري ..وتزيل آخر الكمادات عن جبيني.. تسقيني مرقا دافئ يشبه الترياق ,كانت تتصرف كمن خَبِر المكان ..واعتاد التعامل مع التفاصيل المقيتة باحتراف.. تعرفني أم أني فقدت ذاكرتي.
اقرأ أيضا
درسات وتقارير
الأكثر قراءة
الأقسام
روابط الموقع
مواقع صديقة
اشتراك
تواصل
جميع الحقوق محفوظة @ وزارة الإعلام الفلسطينية 2014
متابعة وتطوير وحدة تكنولوجيا المعلومات